كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد عَيَّن المهدويُّ الميمَ المحذوفة فقال: حُذِفت الميمُ المكسورة، والتقدير، لَمِنْ خلقٍ ليوفِّيَنَّهم.
الثاني: ما ذهب إليه المهدويُّ ومكي وهو: أن يكونَ الأصل: لمَنْ ما بفتح ميم مَنْ على أنها موصولة أو موصوفة، وما بعدها مزيدةٌ فقال: فقلبت النونُ ميمًا، وأُدْغمت في الميم التي بعدها، فاجتمع ثلاثُ ميمات، فحُذِفَت الوُسْطى منهن، وهي المبدلةُ من النون، فقيل لَمَّا. قال مكي: والتقدير: وإنْ كلًا لَخَلْقٌ لَيوفينَّهم ربك أعمالهم، فترجعُ إلى معنى القراءة الأولى بالتخفيف، وهذا الذي حكاه الزجاج عن بعضهم فقال: زَعَمَ بعضُ النحويين أن أصله لمَنْ ما، ثم قلبت النون ميمًا، فاجتمعت ثلاثُ ميمات، فَحُذِفت الوسطى قال: وهذا القولُ ليس بشيءٍ، لأنَّ مَنْ لا يجوز حَذْفُ بعضها لأنها اسمٌ على حرفين.
وقال النحاس: قال أبو إسحاق: هذا خطأ، لأنه تُحْذف النونُ مِنْ مَنْ فيبقى حرفٌ واحد. وقد رَدَّه الفارسيُّ أيضًا فقال: إذ لم يَقْوَ الإِدغام على تحريك الساكن قبل الحرف المدغم في نحو قدم مالك فأَنْ لا يجوزُ الحَذْفُ أَجْدَرُ قال: على أنَّ في هذه السورة ميماتٍ اجتمعَتْ في الإِدغام أكثرَ ممَّا كانَتْ تجتمع في لَمَنْ ما ولم يُحذفْ منها شيءٌ، وذلك في قولِه تعالى: {وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ} [هود: 48]، فإذا لم يُحْذَفْ شيءٌ مِنْ هذا فأن لا يُحْذَفَ ثَمَّ أَجْدَرُ. قلت: اجتمع في أمم ممَّن مَعَك ثمانيةُ ميماتٍ وذلك أن أممًا فيها ميمان وتنوين، والتنوين يُقْلب ميمًا لإِدغامه في ميم مِنْ ومعنا نونان: نونُ مِنْ الجارة ونون مَنْ الموصولة فيقلبان أيضًا ميمًا لإِدغامهما في الميم بعدهما، ومعنا ميم معك، فحَصَّل معنا خمسُ ميماتٍ ملفوظٌ بها، وثلاثٌ منقلبةٌ إحداها عن تنوين، واثنتان نون.
واستدلَّ الفراء على أن أصل لَمَّا لمِنْ ما بقول الشاعر:
وإنَّا لمِنْ ما نَضْرِبُ الكبشَ ضَرْبَةً ** على رأسِه تُلقي اللسانَ من الفم

وبقول الآخر:
وإني لَمِنْ ما أُصْدِرُ الأمرَ وجهَه ** إذا هو أَعْيا بالسبيل مصادرُهْ

قلت: وقد تقدَّم في سورة آل عمران في قراءة مَنْ قرأ: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَا آتَيْتُكُم} [آل عمران: 81] بتشديد لمَّا أن الأصل: لمن ما فَفُعل فيه ما تقدَّم، وهذا أحد الأوجه المذكورة في تخريج هذا الحرف في سورته، وذكرْتُ ما قاله الناسُ فيه، فعليك بالنظر فيه.
وقال أبو شامة: وما قاله الفراء استنباطٌ حسنٌ وهو قريبٌ من قولهم: {لَّكِنَّ هُوَ الله رَبِّي} [الكهف: 38] إن أصله: لكن أنا، ثم حُذِفت الهمزة، وأُدْغِمَتِ النونُ في النون، وكذا قولهم: أمَّا أنت منطلقًا انطلقت، قالوا: المعنى لأِنْ كنتَ منطلقًا. قلت: وفيما قاله نظرٌ؛ لأنه ليس فيه حَذْفٌ البتةَ، وإنما كان يَحْسُنُ التنظيرُ أن لو كان فيما جاء به إدغامٌ، ثم حُذف، وأمَّا مجرَّدُ التنظير بالقلبِ والإِدغامِ فغيرُ طائلٍ.
ثم قال أبو شامة: وما أحسنَ ما استخرج الشاهد من البيت يعني الفراء، ثم الفراء أراد أن يجمع بين قراءتَي التخفيف والتشديدِ مِنْ لمَّا في معنى واحد فقال: ثُمَّ تُخَفَّفُ كما قرأ بعض القراء: {والبغي يَعِظُكُمْ} [النحل: 90]. بحذف الياء عند الياء، أنشدني الكسائي:
وأَشْمَتَّ العُداةَ بنا فأَضْحَوا ** لَدَيْ يَتباشَرُون بما لَقِينا

فحذف ياءَه لاجتماع الياءات. قلت: الأَوْلى أن يُقال: حُذِفت ياءُ الإِضافة مِنْ لديّ فبقيت الياءُ الساكنةُ قبلَها المنقلبةُ من الألف في لدى وهو مِثْلُ قراءةِ مَنْ قرأ: {يابني} بالإِسكان على ما سَبَق، وأمَّا الياء مِنْ يتباشرون فثابتةٌ لدلالتها على المضارعة.
ثم قال الفراء: ومثلُه:
كأنَّ مِنْ آخِرِها إلقادِمِ

يريد: إلى القادم، فحذف اللام عند اللام.
قلت: توجيهُ قولهم: من آخرها إلقادم أن ألف إلى حُذِفَتْ لالتقاء الساكنين، وذلك أن ألف إلى ساكنة ولام التعريف من القادم ساكنةٌ، وهمزةُ الوصل حُذِفت دَرْجًا، فلمَّا التقيا حُذِف أولهما فالتقى لامان: لامُ إلى ولامُ التعريف، فحُذِفت الثانيةُ على رأيه، والأَوْلى حَذْفُ الأُوْلى؛ لأنَّ الثانيةَ دالة على التعريف لم يَبْقَ مِنْ حرف إلى غير الهمزة فاتصلت بلام القادم فبقيَتِ الهمزةُ على كسرها، فلهذا تَلَفَّظ بهذه الكلمة مِنْ آخرها: ءِ القادم بهمزة مكسورةٍ ثابتة درجًا لأنها همزةُ القطع.
قال أبو شامة: وهذا قريبٌ مِنْ قولهم مِلْكذب وعَلْماءِ بنو فلان وبَلْعنبر يريدون: من الكذب، وعلى الماء بنو فلان، وبنو العنبر. قلت: يريد قوله:
أبْلِغْ أبا دَخْتنوسَ مَأْلُكَةً ** غيرُ الذي قد يُقال مِلْكذب

وقول الآخر:
فما سَبَقَ القَيْسِيَّ مِن سُوءِ فِعْلِهِ ** ولكنْ طَفَتْ عَلْماءِ غُرْلَةُ خالدِ

وقد ردَّ بعضُهم قولَ الفراء بأنَّ نونَ مِنْ لا تُحْذف إلا في ضرورة وأنشد: مِلكذبِ.
الثالث: أنَّ أصلَها لَما بالتخفيف ثم شُدِّدت، وإلى هذا ذهب أبو عثمان. قال الزجاج: وهذا ليس بشيءٍ لأنَّا لَسْنا نُثَقِّل ما كان على حرفين، وأيضًا فلغةُ العرب على العكس من ذلك يُخَفِّفون ما كان مثقَّلًا نحو: رُبَ في رُبَّ. وقيل في توجيهه: إنما يكونُ في الحرف إذا كان آخرًا، والميم هنا حشوٌ لأن الألف بعدها، إلا أن يقال: إنه أجرى الحرف المتوسط مُجرى المتأخر كقوله:
.................. ** مثلَ الحريقِ وافَقَ القَصَبَّا

يريد: القصبَ، فلمَّا أشبع الفتحة تولَّد منها ألف، وضعَّف الحرف، وكذلك قوله:
ببازِلٍ وَجْناءَ أو عَيْهَلِّي

شدَّد اللام مع كونِها حَشْوًا بياء الإِطلاق. وقد يُفَرَّق بأن الألف والياء في هذين البيتين في حكم المطَّرح، لأنهما نشآ من حركةٍ بخلافٍ ألف لما فإنها أصليةٌ ثابتة، وبالجملة فهو وجهٌ ضعيفٌ جدًا.
الرابع: أن أصلَها لَمًّا بالتنوين ثم بُني منه فَعْلى، فإنْ جَعَلْتَ ألفَه للتأنيث لم تصرِفْه، وإنْ جَعَلْتَها للإِلحاق صَرَفْتَه، وذلك كا قالوا في تَتْرى بالتنوين وعدمِه، وهو مأخوذٌ مِنْ قولك لَمَمْتُه أي: جَمَعْته، والتقدير: وإنْ كلًا جميعًا ليوفِّينَّهم، ويكون جميعًا فيه معنى التوكيد ككل، ولا شك أن جميعًا يفيد معنى زائدًا على كل عند بعضهم. قال: ويدل على ذلك قراءةُ مَنْ قرأ: {لمًّا} بالتنوين.
الخامس: أن الأصل لَمًّا بالتنوين أيضًا، ثم أَبْدل التنوينَ ألفًا وقفًا، ثم أَجْرى الوصل مُجْرى الوقف. وقد مَنَع من هذا الوجهِ أبو عبيد قال: لأن ذلك إنما يجوز في الشعر يعني إبدالَ التنوين ألفًا وصلًا إجراءً له مُجْرى الوقف، وسيأتي توجيهُ قراءةِ لَمًّا بالتنوين بعد ذلك.
وقال أبو عمرو ابن الحاجب: استعمالُ لَمَّا في هذا المعنى بعيد، وحَذْفُ التنوين مِنْ المنصرف في الوصل أبعدُ، فإن قيل: لَمًّا فَعْلى من اللَّمِّ، ومُنِعَ الصرف لأجل ألف التأنيث، والمعنى فيه مثل معنى لمًّا المنصرف فهو أبعدُ، إذ لا يُعرف لمَّا فعلى بهذا المعنى ولا بغيره، ثم كان يلزَمُ هؤلاء أن يُميلوا كمَنْ أمال، وهو خلافُ الإِجماع، وأن يكتبوها بالياء، وليس ذلك بمستقيم.
السادس: أنَّ لَمَّا زائدة كما تزاد إلا قاله أبو الفتح وغيرُه، وهذا وجهٌ لا اعتبارٌ به فإنه مبنيٌّ على وجه ضعيف أيضًا، وهو أنَّ إلا تأتي زائدةً.
السابع: أنَّ إنْ نافيةٌ بمنزلة ما، ولمَّا بمعنى إلا فهي كقوله: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا} [الطارق: 4] أي: ما كلُّ نفسٍ إلا عليها، {وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ} [الزخرف: 35] أي: ما كل ذلك إلا متاع. واعتُرِض على هذا الوجه بأنَّ إنْ النافية لا تَنْصِبُ الاسمَ بعدها، وهذا اسمٌ منصوب بعدها. وأجاب بعضهم عن ذلك بأن كلًا منصوبٌ بإضمار فعلٍ، فقدَّره قومٌ منهم أبو عمر ابن الحاجب: وإنْ أرى كلًا، وإن أعلمُ، ونحوه، قال: ومِنْ هاهنا كانت أقلَّ إشكالًا مِنْ قراءة ابن عامر لقبولها هذا الوجهَ الذي هو غيرُ مستبعَدٍ ذلك الاستبعاد، وإن كان في نصب الاسم الواقع بعد حرف النفي استبعادٌ، ولذلك اختلُفِ في مثلِ قوله:
ألا رجلًا جزاه اللَّه خيرًا ** يَدُلُّ على مُحَصِّلةٍ تَبيتُ

هل هو منصوب بفعلٍ مقدَّر أو نُوِّن ضرورةً؟ فاختار الخليلُ إضمارَ الفعلِ، واختار يونس التنوين للضرورة، وقدَّره بعضهم بعد لمَّا مِنْ لفظ ليُوَفِّينَّهم والتقدير: وإن كلًا إلا ليوفِّيَنَّ ليوفِّينَّهم. وفي هذا التقدير بُعْدٌ كبيرٌ أو امتناع؛ لأنَّ ما بعد إلا لا يعمل فيما قبلها. واستدلَّ أصحابُ هذا القول أعني مجيء لَمَّا بمعنى إلا بنص الخليل وسيبويه على ذلك، ونصره الزجاج، قال بعضهم: وهي لغة هُذَيْل يقولون: سألتك باللَّه لمَّا فعلت أي: إلا فعلت. وقد أنكر الفراء وأبو عبيد ورودَ لمَّا بمعنى إلا، قال: أبو عبيد: أمَّا مَنْ شدَّد لمَّا بتأويل إلا فلم نجدْ هذا في كلامِ العرب، ومَنْ قال هذا لزمه أن يقولَ: قام القوم لمَّا أخاك يريد: إلا أخاك، وهذا غيرُ موجودٍ.
وقال الفراء: وأمَّا مَنْ جَعَلَ لَمَّا بمنزلة إلا فهو وجهٌ لا نعرفه، وقد قالت العربُ في اليمن: باللَّه لمَّا قمت عنا، وإلا قمت عنا، فأمَّا في الاستثناء فلم نَقُلْه في شعر ولا في غيره، ألا ترى أن ذلك لو جاز لسمعْتَ في الكلام: ذهب الناس لمَّا زيدًا.
فأبو عبيد أنكر مجيء لمَّا بمعنى إلا مطلقًا، والفراء جَوَّز ذلك في القسم خاصةً، وتبعه الفارسي في ذلك فإنه قال في تشديد لمَّا في هذه الآية: لا يصلح أن تكون بمعنى إلا؛ لأن لَمَّا هذه لا تفارق القسم وردَّ الناس قوله بما حكاه الخليل وسيبويه، وبأنها لغة هُذَيْل مطلقًا، وفيه نظرٌ، فإنهم لمَّا حَكَوا اللغة الهذيلية حَكَوْها في القسم كما تقدم مِنْ نحو: نَشَدْتُك باللَّه لمَّا فعلت وأسألك باللَّه لمَّا فعلت. وقال أبو علي أيضًا مستشكلًا لتشديد لمَّا في هذه السورة على تقدير أن لمَّا بمعنى إلا لا تختص بالقسم ما معناه: أن تشديد لمَّا ضعيف سواء شددت إن أم خَفَّفْت، قال: لأنه قد نُصِب بها كلًا، وإذا نُصب بالمخففة كانت بمنزلة المثقلة، وكما لا يَحْسُن: إنَّ زيدًا إلا منطلق، لأن الإِيجابَ بعد نفي، ولم يتقدَّمْ هنا إلا إيجابٌ مؤكد، فلذا لا يَحْسُن: إن زيدًا لَمَّا مُنْطلق لأنه بمعناه، وإنما ساغ: نَشَدْتُك اللَّهَ إلا فعلت ولمَّا فعلت لأنَّ معناه الطلب، فكأنه قال: ما أطلب منك إلا فِعْلك، فحرفُ النفي مرادٌ مثل: {تَالله تَفْتَؤُاْ} [يوسف: 85]، ومَثَّل ذلك أيضًا بقولهم: شَرٌ أهرُّ ذاناب أي: ما أهرَّه إلا شرٌّ، قال: وليس في الآية معنى النفي ولا الطلبِ. وقال الكسائي: لا أعرف وجه التثقيل في لمَّا. قال الفارسي: ولم يُبْعِدْ فيما قال. ورُوي عن الكسائي أيضًا أنه قال: اللَّه عَزَّ وجَلَّ أعلمُ بهذه القراءة، لا أعرف لها وجهًا.
الثامن: قال الزجاج: قال بعضهم قولًا ولا يجوزُ غيرُه: إنَّ لمَّا في معنى إلا، مثل: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4] ثم أَتْبَع ذلك بكلام طويل مشكل حاصِلُه يَرْجِع إلى أن معنى إنْ زيدٌ لمنطلق: ما زيد إلا منطلق، فَأَجْرَيْتَ المشددة كذلك في هذا المعنى إذا كانت اللام في خبرها، وعملُها النصبَ في اسمها باقٍ بحاله مشددةً ومخففةً، والمعنى نفيٌ بإنْ وإثباتٌ باللام التي بمعنى إلا، ولَمَّا بمعنى إلا.
قلت: قد تقدَّم إنكارُ أبي علي على جوازِ إلا في مثلِ هذا التركيب فكيف يجوز لمَّا التي بمعناها؟
وأمَّا قراءةُ ابنِ عامر وحمزة وحفص ففيها وجوه، أحدها: أنها إنَّ المشددةَ على حالها، فلذلك نُصب ما بعدها على أنه اسمُها، وأمَّا لمَّا فالكلامُ فيها كما تقدم مِنْ أنَّ الأصلَ لَمِنْ ما بالكسر أو لَمَنْ ما بالفتح، وجميعُ تلك الأوجهِ التي ذكرْتُها تعودُ ههنا. والقولُ بكونها بمعنى إلا مُشْكِلٌ كما تقدَّم تحريرُه عن أبي علي هنا.
الثاني: قال المازنيٌّ: إنَّ هي المخففة ثُقِّلَتْ، وهي نافيةٌ بمعنى ما كما خُفِّفَتْ إنَّ ومعناها المثقلة ولَمَّا بمعنى إلا. وهذا قولٌ ساقطٌ جدًا لا اعتبارَ به، لأنه لم يُعْهَدْ تثقيلُ إنْ النافية، وأيضًا فكلًا بعدها منصوبٌ، والنافيةُ لا تَنْصِبُ.
الوجه الثالث: أنَّ لَمَّا هنا هي الجازمة للمضارع حُذِف مجزومُها لفهم المعنى. قال الشيخ أبو عمرو ابن الحاجب في أماليه: لمَّا هذه هي الجازمةُ فحُذِف فِعْلُها للدلالةِ عليه، لِما ثبت من جواز حَذْفِ فِعْلِها في قولهم: خَرَجْتُ ولمَّا وسافرتُ ولمَّا وهو شائعٌ فصيح، ويكون المعنى: وإنَّ كلًا لمَّا يُهْمَلوا أو يُتْرَكوا لِما تقدَّم من الدلالةِ عليه مِنْ تفصيل المجموعين بقوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105]، ثم فَصَّل الأشقياءَ والسعداء، ومجازاتَهم، ثم بَيَّن ذلك بقولِه: {لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ}، قال: وما أعرفُ وجهًا أشبهَ مِنْ هذا، وإن كانت النفوسُ تستبعده مِنْ جهةِ أن مثلَه لم يَرِدْ في القرآن، قال: والتحقيقُ يأبى استعبادَه. قلت: وقد نَصَّ النحويون على أن لمَّا يُحذف مجزومُها باطِّراد، قالوا: لأنها لنفيِ قد فَعَلَ، وقد يُحذف بعدها الفعل كقوله:
أَفِدُ الترحل غيرَ أن رِكابَنا ** لَمَّا تَزُل برحالِنا وكأنْ قَدِ

أي: وكأن قد زالت، فكذلك مَنْفِيُّه، وممَّن نَصَّ عليه الزمخشري، عَلى حَذْفِ مجزومها، وأنشد يعقوب على ذلك في كتاب معاني الشعر له قولَ الشاعر:
فجِئْتُ قبوَرُمْ بَدْءًا ولمَّا ** فنادَيْتُ القبورَ فلم يُجِبْنَهْ

قال: قوله بدءًا، أي: سيدًا، وبَدْءُ القوم سيِّدهم، وبَدْءُ الجَزْور خيرُ أَنْصِبائها، قال: وقوله ولما، أي: ولما أكنْ سَيِّدًا إلا حينَ ماتوا فإني سُدت بعدهم، كقول الآخر:
خَلَتِ الدِّيارُ فسُدْتُ غيرَ مُسَوَّدِ ** ومن العَناءِ تَفُّردي السُّؤْدُدِ

قال: ونظيرُ السكوتِ على لمَّا دونَ فعلها السكوتُ على قد دونَ فعلِها في قول النابغة:
أَفِدَ الترحُّل

البيت.
قلت: وهذا الوجهُ لا خصوصيةً له بهذه القراءة، بل يجيءُ في قراءة مَنْ شدَّد لمَّا سواءً شدَّد إن أو خفَّفها.
وأمَّا قراءةُ أبي عمرو والكسائي فواضحةٌ جدًا، فإنها إنَّ المشددة عَمِلَتْ عملها، واللام الأولى لام الابتداء الداخلة على خبر إن، والثانية جواب قسم محذوف، أي: وإنَّ كلًا للذين واللَّهِ ليوفِّينَّهم، وقد تقدَّم وقوعُ ما على العقلاء مقرَّرًا، ونظيرُ هذه الآيةِ قولُه تعالى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ} [النساء: 72] غير أنَّ اللامَ في لمَنْ داخلة على الاسم، وفي لمَّا داخلة على الخبر. وقال بعضهم: ما هذه زائدة زِيْدت للفصل بين اللامَيْن: لامِ التوكيد ولامِ القسم. وقيل: اللام في لَمَا موطئةٌ للقسم مثلَ اللامِ في قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]، والمعنى: وإنَّ جميعهم واللَّه ليوفِّينَّهم ربُّك أعمالَهم مِنْ حُسْنٍ وقُبْحٍ وإيمانٍ وجُحود.
وقال الفراء عند ذكره هذه القراءة: جَعَل ما اسمًا للناس كما جاز: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النساء} [النساء: 3]، ثم جَعَلَ اللامَ التي فيها جوابًا لإِنَّ، وجعل اللامَ التي في ليوفِّيَنَّهم لامًا دَخَلَتْ على نيةِ يمينٍ فيما بين ما وصلتِها كما تقول: هذا مَنْ لَيَذْهَبَنَّ، وعندي ما لَغَيْرُه خيرٌ منه ومثلُه: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ} [النساء: 72]. ثم قال بعد ذلك ما يدلُّ على أن اللامَ مكررةٌ فقال: إذا عَجَّلَت العربُ باللام في غيرِ موضعِها أعادُوها إليه نحو: إنَّ زيدًا لإِليك لمُحْسن، ومثله:
ولو أنَّ قومي لم يكونوا أعِزَّةً ** لبَعْدُ لَقَد لاقيتُ لابد مَصْرَعا

قال: أَدْخَلها في بَعْد، وليس بموضعِها، وسمعت أبا الجراح يقول: إني لبحمد اللَّه لصالحٌ.
وقال الفارسي في توجيهِ هذه القراءة: وجهُها بيِّن وهو أنه نَصَب كلًا بإِنَّ، وأدخل لامَ الابتداء في الخبر، وقد دَخَلَتْ في الخبر لامٌ أخرى، وهي التي يُتَلقَّى بها القسم، وتختص بالدخول على الفعل، فلمَّا اجتمعت اللامان فُصِل بينهما كما فُصِل بين إنَّ واللامَ، فدخَلَتْها وإن كانَتْ زائدةً للفصل، ومثلُه في الكلام: إن زيدًا لَمَا لينطلقَنَّ.
فهذا ما تلخَّص لي من توجيهاتِ هذه القراءات الأربع، وقد طعن بعض الناس في بعضها بما لا تَحَقُّق له، فلا ينبغي أن يُلْتفت إلى كلامِه، قال المبرد: وهي جرأةٌ منه هذا لحنٌ يعني تشديدَ لمَّا قال: لأن العرب لا تقول: إن زيدًا لَمَّا خارج.
وهذا مردودٌ عليه. قال الشيخ: وليس تركيبُ الآية كتركيبِ المثال الذي قال وهو: إنَّ زيدًا لَمَّا خارج، هذا المثالُ لحنٌ.
قلت: إنْ عنى أنه ليس مثلَه في التركيب من كل وجه فمُسَلَّم، ولكن ذلك لا يفيد فيما نحن بصددِه، وإن عنى أنه ليس مثلَه في كونه دخلت لمَّا المشددةُ على خبر إنَّ فليس كذلك بل هو مثلُه في ذلك، فتسليمُه اللحنَ في المثال المذكور ليس بصوابٍ، لأنه يَسْتلزم ما لا يجوز أن يقال.